فصل: ذكر عيسي ابن مريم عليه السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ذكر عيسي ابن مريم عليه السلام

أخبرنا محمد بن عبد الباقي أو قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمرو ابن حيويه قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن معروف قال‏:‏ أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ حدَثنا محمد بن بياض قال‏:‏ حدثنا هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ كان بين موسى بن عمران وعيسى عليهما السلام ألف سنة وسبع مائة سنة ولم يكن بينهما فترة وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمس مائة و تسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثه أنبياء وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏ والذي عزز به سمعون‏.‏

وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربع مائة سنه وأربع وثمانين‏.‏

قال علماء السير‏:‏ مات عمران بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن عازور بن إلياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنا بن يوشيا بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يوشافاظ بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داوود عليهما السلام‏.‏

وكانت امرأة عمران حين مات واسمها‏:‏ حنة حاملا بمريم وكان زكريا زوج أشياع أخت مريم فجعلت حنة ما في بطنها محررًا للكنيسة التي في جبل أصبهيون فلما ولدت إذا هي أنثى فكفلها زكريا فلما فطمتها أمها تركتها في محرابها ولحقت بأهلها فغُذيت بثمار الجنة فكان زكريا يجد عندها الثمار الرطبة التي تكون في الشتاء فيقول‏:‏ يا مريمِ أنى لك هذا فتقول‏:‏ هو من عند الله فهنالك دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ولداَ‏.‏

 ذكر حمل مريم لما بلغت خمس عشرة سنة

خرجت يومًا تستعذب الماء من مغارة فإذا جبريل من عند الله ينفخ في جيبها نفخة فوصلت إلى الرحم فاستمر بها الحمل‏.‏

وقال قوم‏:‏ حملت به لثلاث عشرة سنة وأن جبريل عليه السلام نفخ ما بين جيبها ودرعها‏.‏

وأخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا أبو علي ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدَثني محمد بن يعقوب الدمامي قال‏:‏ أخبرنا المعتمر بن سليمان قال‏:‏ سمعت أبي يُحدث عن الربيع بن أنس عن رفيع أبي العالية عن أبي بن كعب‏:‏ ‏"‏ أن الله عز وجل بعث جبريل إلى مريم فدخل من فيها ‏"‏‏.‏

فصل

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد اختلف العلماء في المدة التي حملت به‏.‏

فقال ابن عباس‏:‏ حين حملت وضعت‏.‏

وعنه‏:‏ ثمانية أشهر‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ وليس أحد يولد لثمانية أشهر فيعيش إلا يشبه عيسى بن مريم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ تسع ساعات‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ ثلاث ساعات‏.‏

وقال ابن جبير‏:‏ تسعة أشهر‏.‏

وقال نوف البكالي‏:‏ مكثت حاملا قدر ما تمكث النساء‏.‏

 ذكر ما جرى له في حال الحمل

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ قالت مريم‏:‏ كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه شاغل سبح في بطني وأنا أسمع‏.‏

ذكر ولادتها قال نوف البكالي‏:‏ خرجت هاربة من قومها نحو المشرق وخرجوا في طلبها فجعلوا لا يلقون أحدًا إلا قالوا‏:‏ هل رأيت فتاة من حالها كذا وكذا‏.‏

فيقول‏:‏ لا‏.‏

حتى أتوا راعي بقر فقالوا له فقال‏:‏ لا ولكني رأيت من بقري شيئآ لم أره رأيتها سجدت نحو هذا الوادي‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة‏}‏ قالت‏:‏ يا ليتني مت قبل هذا ‏"‏ فناداها جبريل‏:‏ لا تحزني فوضعته وقطعت سرته ولفته في خرقة وحملته‏.‏

قال وهب بن منبه‏:‏ لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رؤوسها كلما ردوها على قوائمها انقلبت فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب فشكت إلى إبليس فطاف الأرض ثم عاد فقال‏:‏ رأيت مولودًا والملائكة قد حفت به فلم أستطع أن أدنو إليه ومن أعظم أمره أن الله عز وجل كتمني أمره ولم تضع أم ألا وأنا حاضرها‏.‏

أخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن جعفر قال‏:‏ حدَثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدًثني أبي قال‏:‏ حدًثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن ‏"‏ ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسه الشيطان إلا ابن مريم وأمه ‏"‏‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏"‏ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين‏.‏

 ذكر ما جرى لها مع قومها حين لقوها

قال نوف‏:‏ أقبل قومها يطوفون عليها فلما رأوها قعدت ووضعت عيسى في حجرها وأعطته ثديها فوقفوا و ‏{‏قالوا‏:‏ يا مريم لقد جئت شيئًا فريا‏}‏‏.‏

فأشارت إليه أن كلمهم ف ‏"‏ قالوا‏:‏ كيف نكلم من كان في المهد ‏"‏ فنزع فمه من ثديها وجلس واتكأ على يساره و ‏{‏قال‏:‏ إني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيًا‏}‏‏.‏

 ذكر صفة عيسى عليه السلام

روى أبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وانه خليفتي على أمتي وأنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحُمرة والبياض‏.‏

 ذكر مسكنه عليه السلام

قال مؤلف الكتاب‏:‏ كان عيسى عليه السلام يسكن من ساعير أرض الخليل عليه السلام بقرية تدعى ناصرة‏.‏

ذكر ما جرى له في الصغر في المكتب قال سعيد بن جبير‏:‏ لما ترعرع عيسى جاءت به أمه إلى مُعَلًم الكتاب فدفعته إليه فقال له‏:‏ قل بسم فقال عيسى‏:‏ الله فقال المعلم‏:‏ الرحمن فقال عيسى‏:‏ الرحيم‏.‏

فقال المعلم‏:‏ كيف اعلَم مَنْ هو أعلم مني‏.‏

وكان يخبر الصبيان مما يأكلون وما يدخر لهم أهاليهم في البيوت‏.‏

ذكر نبوته ومعجزاته قال علماء السير‏:‏ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام حين تم له ثلاثون سنة فأمره أن يبرز للناس فيدعوهم إلى الله عز وجل‏.‏

وكانوا أرباب أوثان ثم أنزل عليه الإنجيل بالسريانبة فأقبل عيسى إلى بيت المقدس فأبرأ أعمى ممسوح العينين ومقعدًا زمنأ‏.‏

وكان يداوي المرضى والزَّمْنَى والعميان والمجانين ويبرىء الأكمة والأبرص ويحيى الموتَى ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله‏.‏

وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وكان كتابه الإنجيل وكان من آياته المائدة والمشي على الماء وقد كان يسبح في بطن أمه وتكلم في المهد طفلًا‏.‏

قال وهب‏:‏ وكان يجتمع على بابه من المرضى خمسون ألفًا‏.‏

أنبأنا يحيى بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن الحصين بن دوما قال‏:‏ أخبرنا مخلد بن جعفر قال‏:‏ أخبرنا الحسن ابن علي القطان قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي قال‏:‏ حدثني محمد بن الفضل عن أبان بن أبي عياش عن أبي عثمان النهري عن سلمان الفارسي قال‏:‏ لم يبق في مدينتهم زَمِنٌ ولا مبتلى ولا مريض إلا اجتمعوا إليه فدعا لهم فشفاهم الله فصدقوه واتبعوه ثم قالوا له‏:‏ ابعث لنا من الآخرة قال‏:‏ مَنْ تريدون قالوا‏:‏ سام بن نوح فإنه قد مات منذ كذا وكذا ألف سنة قال‏:‏ تعلمون أين قبره قالوا‏:‏ في وادي كذا وكذا‏.‏

فانطلقوا إلى الوادي فصلى عيسى ركعتين ثم قال‏:‏ يا رب إنهم سألوني ما قد علمت فابعث لي سام بن نوح فقال‏:‏ يا سام بن نوح قُم بإذن الله ثم نادى مثل ذلك ثم نادى الثالثة فأجابه فنظر إلى الأرض قد انشقت عنه فخرج وهو ينفض التراب عن رأسه وهو يقول‏:‏ لبيك يا رسول الله وكلمته ها أنا ذا قد جئتك‏.‏

فقال‏:‏ يا بني إسرائيل هذا عيسى بن مريم ابن العذراء المباركة روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم فآمِنوا به واتبعوه‏.‏

ثم قال‏:‏ يا روح الله إنك لما دعوتني جمع الله مفاصلي وعظامي ثم سواني خلقا فلما دعوتني الثانية رجعت إلي روحي فلما دعوتني الثالثة خفت أن تكون القيامة فشاب رأسي وأتاني ملك فقال‏:‏ هذا عيسى يدعوك لتصدق مقالته يا روح الله سل ربك أن يردني إلى الآخرة فلا حاجة لي في الدنيا‏.‏

قال عيسى‏:‏ فإن شئت أن تكون معي قال‏:‏ يا عيسى أكره كرب الموت ما ذاق الذائقون مثله‏.‏

فدعا ربه فاستوت عليه الأرض وقبضه الله إليه فبلغ عدة من آمن بعيسى سبعة آلاف‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد روي أن الذي أحياه حام بن نوح أنبأنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد بن السراج قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال‏:‏ أخبرنا يوسف بن عمر الزاهد قال‏:‏ قرىء على عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري وأنا أسمع قيل له‏:‏ أخبركم موسى بن عبد الأعلى قال‏:‏ حدثنا ابن وهب قال‏:‏ أخبرني ابن لهيعة عن ابن الهاد عن ابن شهاب قال‏:‏ قيل لعيسى بن مريم عليه السلام‏:‏ أحي حام بن نوح فقال‏:‏ أروني قبره فأروه فقام فقال‏:‏ يا حام بن نوح إحي بإذن الله فلم يخرج ثم قالها الثانية فإذا شق رأسه ولحيته أبيض‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا قال‏:‏ سمعت الدعاء الأول فظننت أنه من الله عز وجل فشاب له شقي ثم سمعت الثاني فعلمت أنه من الدنيا فخرجت‏.‏

قال‏:‏ منذ كم مِت قال‏:‏ منذ أربعة آلاف سنة ما ذهبت عني سكرة الموت ‏"‏ ‏"‏ أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما قال‏:‏ أخبرنا مخلد بن جعفر قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي العطار قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي قال‏:‏ أخبرنا عيسى بن عطية السعدي وعبد الله بن زياد بن سمعان قالا‏:‏ عن بعض مَنْ أسلم من أهل الكتاب قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى عيسى‏:‏ يا عيسى ابن مريم اذكرني في الدنيا أذكرك في المعاد أكحل عينك بملول الحزن تيقظ لي في ساعات الليل‏.‏

أسمعني لذاذة الإنجيل إِذا دخلت مسجدًا من مساجدي فليضطرب قلبك خوفًا مني ولتخشع جوارحك لي‏.‏

وقل لقومك إذا دخلوا مسجدًا من مساجدي لا تدخلوا إلا بقلوب خائفة وأبصار خاشعة خافضة وأيدٍ طاهرة من الدنس‏.‏

وأخبرهم أني لا أستجيب دعاء الظالم حتى يرد المظلمة إلى صاحبها‏.‏

يا عيسى لا تجالس الخطائين حتى يتوبوا يا عيسى إني ذاكر كل من ذكرني وألعن الظالمين إذا ذكروني ذكر عيشته وزهده قال سلمان الفارسي‏:‏ كان عيسى يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل وما قهقه ضاحكًا قط‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان يأكل قلوب الشجر ويلبس الشعر ولم يكن له ولد يموت ولا بيت يخرب ولم يكن يدخر شيئًا لغدٍ أينما أدركه المساء بات‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ كان عيسى عليه السلام يتخذ نعلين من لحا الشجر وشراكهما ليف‏.‏

وقال عمرو بن شرحبيل‏:‏ كان عيسى يأكل من غزل أمه‏.‏

وقال شعيب بن حرب‏:‏ كانت مريم تلقط فإذا عُلم بها نثر لها فإذا علمت تحولت إلى مكان لا تعرف فيه‏.‏

أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما قال‏:‏ أخبرنا مخلد بن جعفر قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي القطان قال‏:‏ أخبرنا إِسماعيل بن عيسى العطار قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي قال‏:‏ أخبرنا عيسى بن عطية السعدي وعبد الله بن زياد بن سمعان قالا جميعًا‏:‏ عن مكحول عن كعب‏:‏ أن عيسى كان يأكل الشعير ويمشي على رجليه ويركب الدواب ولا يسكن البيوت ولا يستصبح السراج ولا يلبس القطن ولا لمس النساء والطيب ولم يمزج شرابه بشيء قط ولم يدهن رأسه ولم يقرب رأسه ولحيته غسولأ قط ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئًا قط‏.‏

ولم يهتم لغداء ولا لعشاء‏.‏

وكان يجالس الضعفاء والمساكين ولم يأكل مع الطعام إدامًا قط وكان يجزىء بالقوت القليل ويقول‏:‏ هذا لمن يموت كثير‏.‏

وقال عيسى وعبد الله جميعًا عن بعض مَنْ أسلم من أهل الكتاب‏:‏ أن عيسى عليه السلام كان سياحًا يسيح في الأرض لا يأويه بيت ولا قرية عليه برنس من شعر وإزار من شعر وينتعل نعلين من النعال السبتية وفي يده عصا مأواه حيث جُنَه الليل سراجه ضوء القمر وظله ظلمة الليل وفراشه من الأرض ووسادة حجر الأرض وبقله وريحانه عُشب الأرض وربما طوى الأيام جائعًا إذا أصابه الشدة فرح واستبشر وإذا أصابه الرخاء خاف وحزن‏.‏

قال القرشي‏:‏ وبه حدثنا هشام عن الحسن‏:‏ أن عيسى مر به إبليس يومًا وهو متوسد حجرًا فقال‏:‏ يا عيسى أليس تزعم أنك لا تريد شيئًا من عرض الدنيا قال فقام عيسى عليه السلام فأخذ الحجر فرمى به إليه فقال‏:‏ هذا لك مع الدنيا‏.‏

قال‏:‏ وقالوا‏:‏ يا روح الله لو بنينا لك بيتًا تسكنه قال‏:‏ لا حاجة لي به فألحوا عليه فأذن لهم فبنوا له عريشأ فلما دخله فنظر إليه قال‏:‏ إنما أردت بيتًا إذا قمت أصاب رأسي وإذا اضطجعت أصاب جنبي حائطه ولا حاجة لي بهذا فلم يسكن بعدها ظل بيت قط حتى رُفِع‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي بن ميمون قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله‏:‏ محمد بن علي العلوي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي العطار قال أخبرنا أحمد بن جعفر البجلي قال‏:‏ حدَّثنا علي بن المنذر الطرائقي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن فضيل قال‏:‏ حدثنا عمران بن مسلم قال‏:‏ بلغني أن عيسى بن مريم خرج على أصحابه عليه مدرعة من صوف وكساء من صوف وتُبَّان مجزوز الرأس والشاربين باكيًا شعثَاَ متغير اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش طويل شعر الصدر والذراعين والساقين فقال‏:‏ السلام عليكم أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن من الله أعز وجل ولا عجبٌ ولا فخر يا بني إسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم أهينوا الدنيا تكرم الآخرة عليكم ولا تهينوا الآخرة فتكرم الدنيا عليكم فإن الدنيا ليست بأهل لكرامة كل يوم تدعو إلى الفتنة والخسارة‏.‏

ثم قال لأصحابه‏:‏ تمرون أين بيتي قالوا‏:‏ أين بيتك يا روح الله فقال‏:‏ بيتي المساجد وطيبي الماء وإدامي الجوع ودابتي رجلي وسراجي بالليل القمر وظلالي ظلمة الليل ومسكني في الشتاء مشارق الشمس وطعامي ما يبس وفاكهتي وريحاني بقول الأرض مما يأكل السباع والأنعام ولباسي الصوف وشعاري الخوف وجلسائي الزمنى والمساكين أصبح وليس لي شيء وأمسي وليس لي شيء وأنا طيب النفس غير مكترث مَنْ أغنى مني وأربح مني‏.‏

وذكر أنه لبس جبة من صوف عشر سنين كلما تخرق منها شيء خاطه بشريط ولم يدهن رأسه أربع سنين متواليات ثم دهنه بودك الشحم وقال‏:‏ يا بني إسرائيل اتخذوا المساجد بيوتًا والقبور دورًا وكونوا كأمثال الأضياف ألا ترون إلى طير السماء لا يزرعن ولا يحصدن وإله‏.‏

السماء يرزقهن‏.‏

يا بني إسرائيل كلوا من خبز الشعير ومن بقول الأرض واعلموا أنكم لم تؤدوا شكر ذلك فكيف ما كان من فضل‏.‏

أخبرنا الحسن بن أحمد بن محبوب قال‏:‏ أخبرنا أبو علي‏:‏ أحمد بن محمد البرداني قال‏:‏ قرأت على يوسف بن محمد الهمذاني أخبركم الحسين بن عمر بن برهان قال‏:‏ حدثنا محمد بن عمرو بن البختري قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبيد قال‏:‏ حدَّثني المثنى بن معاذ الغنوي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن شجاع النميري قال‏:‏ بينا عيسى بن مريم يسيح في بعض بلاد الشام اشتد به المطر والرعد والبرق‏.‏

فجعل يطلب شيئًا يلجأ إليه فرُفِعَتْ له خيمة من بُعد فإذا فيها امرأة فحاد عنها فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا في الكهف أسد فرفع يده ثم قال‏:‏ إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى فأجابه الجليل عز وجل‏:‏ مأواك عندي في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حورًا جعلتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربع مائة عام يوم منها كعمر الدنيا ولآمرنَّ مناديًا ينادي‏:‏ أين الزاهدون في الدنيا زوروا عرس الزاهد عيسى ابن مريم‏.‏

 ذكر طرف من مواعظ عيسى عليه السلام

أنبأنا يحيى بن ثابت بن بندار قال‏:‏ أخبرنا أبي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن الحسين بن دوما قال‏:‏ أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرجي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن علي القطان قال‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن عيسى العطار قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن بشر القرشي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن إدريس عن وهب بن منبه قال‏:‏ قال عيسى بن مريم‏:‏ ‏"‏ إن للحكمة أهلًا إن كتمتها عن أهلها جهلت وإن تكلمت بها عند غير أهلها جهلت فكن كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع ‏"‏‏.‏

قال القرشي‏:‏ وأخبرنا عيسى بن عطية السعدي وعبد الله بن زياد بن سمعان قالا‏:‏ عن بعض من أسلم من أهل الكتاب قال‏:‏ قال عيسى عليه السلام للحواريين‏:‏ لا تجالسوا الخطائين فإن مجالستهم تقسي القلب تقربوا إلى الله عز وجل بمفارقتهم‏.‏

يا معشر الحواريين لا تحملوا على اليوم هم غدٍ حَسْب كل يوم همه ولا يهتم أحدكم لرزق غدٍ خالق غد يأتيكم فيه بالرزق‏.‏

ولا يقولن أحدكم إذا استقبل الشتاء‏:‏ من أين آكل ومن أين ألبس وإذا استقبله الصيف يقول‏:‏ من أين آكل ومن أين أشرب فإن كان لك في الشتاء بقاء ذلك فيه رزق وإن كان لك في الصيف بقاء ذلك فيه رزق‏.‏

ولا تحمل هم شتائك وصيفك على يومك حسب هم كل يوم بما فيه‏.‏

يا معشر الحواريين‏.‏

إن ابن آدم خلق في الدنيا على أربعة منازل فهو في ثلاثة منها بالله واثق وظنه بالله حَسن وهو في الرابعة سيىء ظنه بربه يخاف خذلان الله إياه‏.‏

أما المنزلة الأولى فإنه يخلق في بطن أمه خنقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة يدر الله عليه رزقه في ظلمة البطن فإذا خرج من البطن وقع في اللبن لا يسعى إليه بقدم ولا يتناوله بيده ولا ينهض إليه بقوة بل يكره عليه حتى يرتفع عن اللبن ويفطم ويقع في المنزلة الثالثة بين أبوين يحنان عليه فإذا ماتا وتركاه يتيمًا تعطف عليه الناس يطعمه هذا ويكسوه هذا رحمة له حتى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع حتى انه لا يرزقه إلا الله اجترأ على الله وغدا على الناس يقاتلهم على الدنيا‏.‏

يا معشر الحواريين اعتبروا بالطير هل رأيتم طيرًا قط يدخر وكذلك البهائم والسباع الحق أقول لكم أمسيتم في زمان أقوم كلامهم كلام الأنبياء وفعالهم فعال السفهاء كلامهم دواء يبرىء الداء وقلوبكم ما تقبل الدواء‏.‏

قلوبكم تبكي من أعمالكم أصبحت الدنيا عندكم بمنزلة العروس المجلية يعشقها كل من يراها وهي بمنزلة الحية لين لمسها يقتل سمها‏.‏

يا معشر الحواريين ليكن همكم من الدنيا أنفسكم تفوزوا بها ولا تكن همَّكم بطونكم وفروجكم‏:‏ تملأوها من الطعام وتضمروها من الحكمة كلوا خبز الشعير وملح الجريش واخرجوا من الدنيا سالمين‏.‏

واعلموا أن النظر إلى النساء سهم من سهام إبليس مسموم وهو يزرع الشهوة في القلب وان مثل الحكيم يعمل حكمته كمثل الشمس تضيء للخلائق ولا تحرق يا معشر الحواريين لا تضعوا البعوض عن شرابكم وسرطون الفيلة لا تنظروا في ذنوب الناس كالأرباب وانظروا في ذنوبكم كالعبيد ما الناس إلا كرجلين‏:‏ مبتلى ومعافى فارحموا صاحب البلاء واحمدوا الله على العافية‏.‏

يا بني إسرائيل كونوا حكماء علماء لا تضعوا الحكمة إلا عند أهلها ولا تكتموها أهلها فإنكم إن تكلمتم بالحكمة عند غير أهلها جهلتم وإن منعتموها أهلها فقد ظلمتموها وضيعتموها فكونوا كالطبيب العالم الذي يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع اعفوا عن الناس يعف الله عز وجل عنكم‏.‏

يا بني إسرائيل ما يغني عن البيت المظلم السراج على ظهره وباطنه مظلم تخرجون الحكمة إلى الناس وتمسكون الغل في صدوركم‏.‏

لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق ويمسك النخالة كذلك الحكمة تخرج من أفواهكم وتبقي الغِل في صدوركم‏.‏

إن الذي يخوضُ الماء لا بد أن يصيب ثوبه الماء وكذلك مَنْ يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا‏.‏

طوبى للمجتهدين بالليل ورعوا في مساجدهم العمل وسقوا زرعهم من الدموع عينهم حتى نبت وأدرك الحصاد ليوم فقرهم فوجدوا عاقبة ذلك عند ربهم ومَنْ يكن زرعه المر لا يحصد حُلوًا‏.‏

يا عبد الدنيا ما أكثر الشجر وليس كله يثمر وما أكثر العلماء وليس كلهم يعمل إن الدابة ما لم تُرَضْ تُستصعب‏.‏

يا عبيد الدنيا إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون كنتم أمواتًا فأحياكم وحين أحياكم متم وحين كنتم ضلالا هداكم وحين اهتديتم ضللتم‏.‏

إن الزانية إذا حملت يفضحها حملها وكذلك يفتضح بالعمل مَنْ كان يغر الناس بالقول الحسن ويقول ما لا يفعل‏.‏

 ذكر الحوادث في زمان عيسى عليه السلام

منها إيمان الحواريين وهم اثنا عشر رجلأ اتبعوا عيسى عليه السلام وأهل الكتاب يجعلونهم رسلًا ويسمونهم‏:‏ فأولهم شمعون الصَّفا ثم أندرواس أخوه ثم ربدى ثم يوحنا أخوه ثم تولوس ثم لوقا ثم برتملى ثم ثوما ثم متى الماكس ثم يعقوب بن خلفى ثم شمعون العتاني ثم مارقوش‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وهؤلاء الذين سألوا عيسى عليه السلام نزول المائدة‏.‏

ومن الحوادث إيفاد عيسى رجلين من الحواريين إلى أنطاكية لإنذار أهلها‏:‏ روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون‏}‏‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ ذكر لنا أن عيسى بن مريم عليه السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم فكذبوهما فبعث ثالثًا ‏"‏‏.‏

وإلى هذا المعنى ذهب ابن جريج‏.‏

وقد ذهب قوم منهم كعب ووهب إلى أن اللّه تعالى أرسلهم والأول أثبت‏.‏

ومن الجائز أن يضاف إرسالهم إلى الله وان كان عيسى قد أرسلهم لأنهم رسوله‏.‏

واختلف العلماء في اسميهما على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدهما‏:‏ صادق وصدوق قاله بن عباس وكعب‏.‏

والثاني‏:‏ يحنا ويونس قاله وهب‏.‏

والثالث‏:‏ يومار وبولس‏.‏

قاله مقاتل‏.‏

قال‏:‏ واسم الثالث شمعون وكان من الحواريين وهو وصي عيسى عليه السلام‏.‏

قال كعب‏:‏ كان بأنطاكية فرعون يقال له‏:‏ أنطبجس يعبد الأصنامٍ فبعثهم الله عز وجل إليهم فكذَبهم وأراد قتلهم فبلغ ذلك حبيبًا وكان مجذوما فجاء يسعى ويقول‏:‏ يا قوم اتبعوا المرسلين فقتلوه‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ ووطئوه بأرجلهم فلما مضى إلي رحمة الله قال‏:‏ يا ليت قومي يعلمون وغضب الله عليهم لاستضعافهم إياه فعجل الانتقام منهم فصيح بهم فهلكوا‏.‏

وقد قال أبو الحسين بن المنادي‏:‏ حبيب النجار هو نبي أصحاب الرس المذكور في سورة الفرقان‏.‏

قال مؤلف الكتاب‏:‏ وفي هذا بُعد‏.‏

لقاء عيسى عليه السلام إبليس لعنه اللّه أنبأنا أبو بكر‏:‏ محمد بن عبد الباقي البزاز قال‏:‏ أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي عن أبي الحسين ابن أخي مهنى قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال‏:‏ أخبرنا محمد بن يحيى بن عمر الواسطي قال‏:‏ حدًثني محمد بن الحسين البرجلاني قال‏:‏ حدَثني محمد بن بشر قال‏:‏ أخبرنا سعيد بن عصام عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال‏:‏ لقي عيسى بن مريم إبليس فقال له‏:‏ أسألك بالحي القيوم الذى جعل عليك اللعنة ما الذي يسيل جسمك ويقطع ظهرك فضرب بنفسه الأرض ثم قام فقال‏:‏ لولا أنك سألتني بالحي القيوم مما أخبرتك أما الذي يقطع ظهري فصلاة الرجل في بيته نافلته وفي الجماعة فرضه‏.‏

وأما الذي يسيل جسمي فصهيل الخيل أو قال الفرس في سبيل الله عز وجل‏.‏

ومن الحوادث في زمانه قتل يحيى بن زكريا وقد سبق ذكر ذلك فإنه قتل وعيسى عليه السلام في الأرض‏.‏

ومن الحوادث في زمن عيسى عليه السلام أن الأرض أجدبت فخرج يستسقي أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن سمعون قال‏:‏ حدًثنا عثمان بن أحمد بن يزيد قال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الجيلي قال‏:‏ حدَثنا محمد بن حاتم الطوسي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الهروي حدَثنا إسحاق بن إِبراهيم التغلبي قال‏:‏ أخبرنا مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ خرج عيسى بن مريم يستسقي بالناس فأوحى الله عز وجل إليه‏:‏ لا يستسقي معك خَطَاء فأخبرهم بذلك فقال‏:‏ مَنْ كان من أهل الخطايا فليعتزل‏.‏

فاعتزل الناس كلهم إلا رجل مصاب بعينه اليمنى فقال له عيسى‏:‏ ما لك لا تعتزل فقال‏:‏ يا روح الله ما عصيت الله طرفة عين ولقد التفت بعيني هذه إلى قدم امرأة من غير أن كنت أردت النظر إليها فقلعتها ولو نظرت إليها باليسرى لقلعتها‏.‏

قال‏:‏ فبكي عيسى حتى ابتلت لحيته بدموعه ثم قال فادعُ فأنت أحق بالدعاء مني فإني معصوم بالوحي وأنت لم تعصم أولم تعص فتقدم الرجل فرفع يديه وقال‏:‏ اللهم إنك خلقتنا وقد علمت ما نعمل من قبل أن خلقتنا فلم يمنعك ذلك أن لا تخلقنا فكما خلقتنا وتكفلت بأرزاقنا فارسل السماء علينا مدرارًا فو الذي نفس عيسى بيده ما خرجت الكلمة تامةً من فيه حتى أرخت السماء عزاليها وسقي الحاضر والبادي‏.‏

أخبرنا هبة بن محمد بن الحصين قال‏:‏ أخبرنا أبو طالب‏:‏ محمد بن غيلان قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر‏:‏ محمد بن عبد الله الشافعي قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن يوسف قال‏:‏ أخبرنا بحر بن نصر قال‏:‏ أخبرنا عافية بن أيوب عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي عثمان المهدي عن سلمان الفارسي قال‏:‏ لما سأل الحواريون عيسى أن ينزل الله تعالى لهم المائدة قام عيسى فألقى الصوف عنه ولبس الشعر والتحفه ووضع يمينه على شماله ووضعهما على صدره وصف بين قدميه وألصق الكعب بالكعب والإبهام بالإبهام وخفض رأسه خاشعًا ثم أرسل عينه بالبكاء حتى سالت الدموع على لحيته وجعلت تقطر على صدره وقال‏:‏ اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وأخرنا فيكون عطيةً منك لنا علامة منك وبيننا وبينك وارزقنا عليها طعامأ نأكله‏.‏

قال‏:‏ فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين‏:‏ غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها تهوي منقضة في الهواء وعيسى يبكي ويقول‏:‏ إلهي اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابَاَ‏.‏

حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحًا طيبة لم يجدوا مثلها قط فخر عيسى ساجدأ لله عز وجل وخر الحواريون معه فبلغ ذلك اليهود فأقبلوا ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا وإذا منديل مُغطى على السفرة فجاء عيسى فجلس فقال‏:‏ مَنْ أجرأنا و أوثقنا بنفسه وأحسننا بلاءً وأوثقنا عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل فقال الحواريون‏:‏ أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته‏.‏

قال‏:‏ فتوضأ عيسى وضوءًا جديدًا ودعا ربه دعاء كثيرأ وبكى بكاء طويلأ ثم قام حتى جلس عنده السفرة فإذا سمكة ليس فيها شوك وقد رُصًتْ حولها من البقول وإذا عند رأسها خلٌ وعند ذنبها ملح وخمسة أرغفة على كل واحد منها زيتون وخمسُ رمانات فقال شمعون رأس الحواريين‏:‏ يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة فقال عيسى‏:‏ سبحان الله أما تنتهون ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا‏.‏

فقال شمعون‏:‏ لا واللّه إله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءًا قال عيسى‏:‏ ليس ما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة إنما هو شيء ابتدعه الله عز وجل بالقدرة فقال له‏:‏ كن فكان فكلوا ما سألتم واحمدوا عليه ربكم‏.‏

فقالوا‏:‏ يا روح اللّه إن أريتنا اليوم آية من هذه السمكة فقال‏:‏ يا سمكة إحي بإذن الله تعالى‏.‏

فاضطربت السمكة طرية تدور عيناها تبصبص تلمظ بفيها كما يتلمظ السَبعُ‏.‏

ثم قال‏:‏ عودي كما كنت بإذن الله‏.‏

فعادت مشوية في حالها‏.‏

فقالوا‏:‏ يا روح اللّه كن أنت أول مَنْ يأكل منها فقال‏:‏ معاذ اللّه أن آكل منها ولكن يأكل منها مَنْ سألها فعرف الحواريون أن تكون إنما أنزلت سخطة فلم يأكلوا فدعا لها عيسى أهل الفاقة والزمانة والعميان والمجذومين والبرص والمقعدين وأصحاب الماء الأصفر والمجانين والمختلين فقال‏:‏ كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم ليكون المهنأ لكم والبلاء و العقوبة لغيركم‏.‏

فصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل أو امرأة كلهم شبعانٌ يتجشأ وإذا ما عليها كهيئته حين نزلت من السماء‏.‏

ورُفعت السفرة إلى السماء وهم ينظرون إليها فاستغنى كل فقير أكل منها يومئذ وبَرَأ كل زمنٍ من زمانته وندم الحواريون وسائر مَنْ أبى أن يأكل منها فكانت إذا نزلت بعد ذلك أقبلوا إليها من كل مكان الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والمرضى والأصحاء‏.‏

فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوبًا بينهمِ وكانت تنزل يومأ ولا تنزل يومًا‏.‏

فلبثت كذلك أربعين صباحًا تغيب يومًا وتنزل يوما َيؤكل منها حتى إذا فاء الفيء ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها حتى توارى عنهم فأوحى الله إلى عيسى‏:‏ أن اجعل مائدتي رزقًا لليتامى والزمنى دون الأغنياء من الناس‏.‏

فلما فعل ذلك بهم عظم على الأغنياء وأذاعوا القبيح حتى شكُوا وشَكًكُوا الناس حتى قال قائلهم‏:‏ يا روح الله بحق أنها تنزل من عند الله فقال عيسى‏:‏ ويحكم هلكتم سترون العذاب إن لم يرحمكم الله تعالى‏.‏

فأوحى الله تعالى إلى عيسى ابن مريم عليه السلام‏:‏ إني آخذ بشرطي من المكذبين الذين اشترطت عليهم إني مُعذَب مَنْ كفر منهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين‏.‏

فمسخ الله تعالى منهم ثلاثة وثلاثين خنازير من ليلتهم فأصبحوا يأكلون ما في الحشوش ويأتون إلى عيسى عليه السلام فينظرون إليه وأعينهم تسيل دمعًا فيقول عيسى‏:‏ يا فلان يا فلان قد كنت أخوفكم سبب رفع عيسى عليه السلام إلى السماء قال وهب بن منبه‏:‏ أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فقال عيسى عليه السلام‏:‏ مَنْ يشتري نفسه منكم بالجنة‏.‏

فقال رجل‏:‏ أنا فأخذوه فقتلوه‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ أن عيسى عليه السلام قال‏:‏ أيكم يُلقى عليه شبهي فيُقتل مكاني ويكون معي في درجتي فقام شاب فقال‏:‏ أنا‏.‏

فالقي عليه شبهه ورُفع عيسى فقتلوه‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ واسم هذا الرجل يسوع بن قديرا‏.‏

وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أن عيسى عليه السلام دخل خوخة فدخل وراءه رجل من اليهود فالقي عليه شبه عيسى فقتلوه وصلبوه‏.‏

قال وهب‏:‏ رفع الله عيسى عليه السلام لثلاث ساعات من النهار وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فأصبح ملكيًا إنسيًا سمائيًا أرضيأ‏.‏

وقال أبو الحسن بن البراء العبدي‏:‏ رُفِعَ عيسى ليلة القمر وترك خفين ومدرعة وحذافة يحذف بها الطير وكان عمره ثلاثأ وثلاثين سنة وأشهرًا‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ رَفَعَ اللّه عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة‏.‏

وقال مؤلف الكتاب‏:‏ وقد ذكرنا أنه أوحى الله عز وجل إليه بعد الثلاثين فبقي يوحى إليه ثلاث سنين ثم انقطع الوحي بعده ووقعت الفترة إلى أن بعث نبينا محمدا صلي الله عليه وسلم‏.‏

وقد قيل‏:‏ بل بعث بينهما أربعة من الرسل ثلاثة منهم مذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏‏.‏

والرابع‏:‏ خالد بن سنان العبسي‏.‏

وقد روينا عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه ذكر عيسى فقال‏:‏ ‏"‏ ليس بيني وبينه نبي‏.‏

وظاهر هذا يمنع وجود نبي بينهما‏.‏

ومن الممكن أن يتأؤل فيقال‏:‏ لا نبي يُغَير حكمًا فإنَّ عيسى أحل وحرم ومَنْ بعث بعده دَعَى إلى دينه ولم يُغير‏.‏

والله أعلم‏.‏

قال علماء التاريخ‏:‏ ومِن هبوط آدم عليه السلام إلى أن رُفع المسيح إلى السماء خمسة آلاف وخمسمائة واثنتان وثلاثون سنة‏.‏

 ذكر حال عيسى عليه السلام عند نزوله من السماء

روى أبو هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه ذكر عيسى فقال‏:‏ إنه نازل يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام فيُهلك الله تعالى في زمانه مسيح الضلالة الدجال الكذًاب ويقع الأمن في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا يضرهم شيئًا فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المؤمنون ‏"‏‏.‏

وروى النواس بن سمعان عن النبي عليه الصلاة وقال عبد الله بن سلأَم‏:‏ مكتوب في التوراة صفة محمد يُدفن معه عيسى ابن مريم عليهما السلام‏.‏

أنبأنا أبو القاسم‏:‏ هبة الله بن أحمد الحريري عن أبي طالب‏:‏ محمد بن علي بن الفتح العشاري قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن ميمي قال‏:‏ حدًثنا أبو علي بن صفوان قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن عبيد الله بن مهدي قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الرحمن قال‏:‏ أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي عن عبد الله بن زيد أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد اللّه بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ‏:‏ ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام إلى الأرض فيتزوج ويُولَد له ويمكث خمسًا وأربعين سنة ثم يموت فيُدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحدٍ بين أبي بكر وعمر ‏"‏‏.‏

ذكر حوادث مرت عقيب رفع عيسى عليه السلام فمنها افتراق العقائد روى أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ لما رُفِعَ عيسى عليه السلام اجتمع من علماء بني إسرائيل مائة رجل فقال بعضهم لبعض‏:‏ أنتم كثير ونتخوف الفرقة ليخرج بعضكم‏.‏

فأخرجوا عشرة عشرة حتى بقت عشرة فقالوا‏:‏ أنتم كثير أخرجوا بعضكم فاخرجوا ستة وبقي أربعة إليهم ينتهي علم بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض‏:‏ ما تقولون في عيسى فقال رجل منهم‏:‏ أتعلمون أن أحدًا يحيي الموتى إلا الله‏.‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ أتعلمون أن أحدًا يعلم الغيب إلا اللّه‏.‏

قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ أتعلمون أن أحدًا يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فإنه هو اللّه كان في الأرض ما بدا له ثم صعد إلى السماء حين بدا له‏.‏

فقال الآخر‏:‏ أنا لا أقول كما أقلت قد عرفنا عيسى وعرفنا أمه بل هو ولده‏.‏

فقال الآخر‏:‏ لا أقول كما قلتما ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح‏.‏

فقال الأخر‏:‏ لا أقول كما تقولون قد كان عيسى يخبركم أنه عبد الله وروح الله وكلمته ألقاها إلى مريم فقولوا كما قال لنفسه‏.‏

فتفرقوا فخرج رجل منهم فسألوه‏:‏ ما قلت قال‏:‏ قلت هو الله فاتبعه عنق من الناس‏.‏

ثم قالوا للآخر‏:‏ ما قلت قال‏:‏ قلت هو ولده فاتبعه عنق من الناس ثم خرج الثالث فقالوا‏:‏ ما قلت قال‏:‏ قلت جاءت به أمه من عمل غير صالح فاتبعه عنق من الناس ثم خرج الآخر فقالوا‏:‏ ما قلت‏.‏

قال‏:‏ قلت هو عبد اللهّ وروح الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم فاتبعه عنق من الناس‏.‏

وروى شيبان عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أنه لما رُفع عيسى عليه السلام انتخب أربعة من فقهائهم فقالوا للأول‏:‏ ما تقول في عيسى‏.‏

قال‏:‏ هو الله أهبط إلى الأرض فخلق ما خلق وأحيا ما أحيا ثم صعد إلى السماء‏.‏

فاتبعه على ذلك ناس فكانت اليعقوبية من النصارى‏.‏

فقالت الثلاثة الأخر‏:‏ نشهد أنك كاذب فقالوا للثاني‏:‏ ما تقول في عيسى فقال‏:‏ هو ابن اللّه‏.‏

وتابعه على ذلك ناس فكانت النسطورية من النصارى‏.‏

فقال الاثنان الآخران‏:‏ نشهد أنك كاذبٌ فقالوا للثالث‏:‏ ما تقول في عيسى فقال‏:‏ هو إله وأمه إله والله إله فبايعه على ذلك ناس‏.‏

فكانت الإسرائيلية من النصارى الذي يقال دين الملك‏.‏

فقال الرابع‏:‏ أشهد أنك كاذبٌ ولكنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحه‏.‏

فاختصم القوم فقال المرء المسلم‏:‏ أنشدكم الله أتعلمون أن عيسى كان يُطعَم الطعام قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وهل تعلمون أنً الله لا يُطْعَم الطعام قالوا‏:‏ اللهم نعم قال‏:‏ فأنشدكم الله أتعلمون أن عيسى كان ينام قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فهل تعلمون أن الله عز وجل لا ينام قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فخصمهم‏.‏

ومن الأحداث بعد رفع عيسى ابن مريم عليهما السلام وفاة مريم عليها السلام‏:‏ فإنها بقيت بعد رفعه ست سنين وكان جميع عمرها نيفًا وخمسين سنة‏.‏